29 - 06 - 2024

مدينتي الفاضلة | ماهر الألفي عاشق ماريا، ومحافظ لم يحافظ

مدينتي الفاضلة | ماهر الألفي عاشق ماريا، ومحافظ لم يحافظ

أحكي لكم عن اسكندرية بعيون أحد مشاهيرعشاقها، قبل تسونامي الانفتاح.. وعن حالها اليوم.. وأسأل محافظها، لماذا ينتظر إقالة رسمية!! هل قرار التعيين يمنع شرف الاستقالة!؟

العاشق هو د. ماهر الألفي أشهر صيادلة الاسكندرية، عاش العمر في حنايا قلبها.. مسكن طفولته وكل عمره في " الأزاريطة".. عمارة أصيلة مٌعمرة، تشبعت أحجارها بروح المدينة وتاريخها.. معمارها الدائري عاش نغمة في أوركسترا أحياء الاسكندرية من شرقها لغربها،.. قبل تاسونامي غربي يبيع الماضي والمستقبل!!

عاش د. ماهر وشلة أصحابه الصيادلة ازدهار الستينات، اكتسبوا سمات المرحلة والمدينة، رقي السلوك، اتساع الثقافة، والتذوق الفني.. باعدت المسافات الجغرافية بين أغلبهم لاصطياد الأحلام.. واستقر ماهر عمدة الاسكندرية ومؤرخها، طائر نورس يرصد جلال شروق الحياة وغروبها.. رفقته لمثقفيها ومشاهير أدبائها شهور المصيف، ومتابعة السينما العالمية، صقلته بذائقة انسانية خاصة.. اشتهر بحفظ رباعيات جاهين، وظٌرف توظيفها كأنه مؤلفها!! تراه مزيجا من سندباد بحري، وفيلسوف إغريقي، وملك فرعوني حالم وعملي (ما بين آمون ورمسيس الثاني).. عاشق نشيط حكاء، تعرفه الآثار الرومانية واليونانية الغارقة في شرق الاسكندرية كأنه حارسها!! عاش ينتظر لحظة الإبحار منفردا وصولا للخط البعيد الرابط بين البحر المتوسط والسماء.. يعرف أنه وهمي، وأنه يخفي جزرا ومدنا عاد إليها جيران الطفولة، ويأتي منها أولادهم سياحا مشتاقين لبيوت اجدادهم..يونانيين وطلاينة وفرنسيين، تعيش فنون حضاراتهم لوحات على جدران الاسكندرية، وأنتيكات في بيوتها.

بالتخرج امتلك ماهر اللحظة، ثبت الجربنديه على ظهره والبوصلة إلى سحر المجهول.. انطلق كسندباد جسور، عازم على اكتشاف كل مكان قرأ أو شاهد أو سمع عنه من خواجات فنادق ومطاعم ومقاهي اسكندرية.. الأوتوستوب يحفظ قروشه القليلة ويضاعف اكتشافاته!! يطوف ويشوف ويعود بحذاء دايب، ومغامرات طفولية، ودهشة مٌفرحة.. والأهم، معارف انسانية تؤكد قناعاته بأن الله خلق كل شيء جميلا، البشر والكون، لكى لا نكون إلا فرحين..وأن الفرح نصيب الساعي إليه.. يضمه رؤوف توفيق إلى أقرانه، كتيبة القلوب الشابة والعقول المتحررة، سكان مجلة صباح الخير وقرائها.. شباب ولاؤهم لجمال عبد الناصر مثلهم الأعلى.. ميثاقه الوطني منارتهم " حرية، مجانية تعليم، ثقافة وفنون.. سد عال، تصنيع، زراعة، الانسان ثروة قومية ".. جيل عفي طموح، يحفر أساسات العدل ببذور الوعي، تظهر البشاير تعليما وفنون .. قبل أن يٌزًهٍر النوار يضرب مصر إعصار الانفتاح، يزلزل ثوابتنا ويزرع الغربة داخل الوطن.. القبائل تستقطب أولادنا المهرة لتأسيس حضارة صناعية.. يتشتت القطيع ويضطرب في مواجهة فساد وسيادة رأسمالية وتسلل طائفية!! يقاوم جيل ماهر لأنه مؤسس على صخر المبادئ والوطنية، يتساند واثقا أن الغد أفضل.. يهرب كثيرون، ويتشبث ماهر بمعشوقته.    

يحكي عنها فنعشقها، ونٌدمنها شتاء.. يستقبلنا أكسجينها معطرا باليود من مدخلها الصحراوى، يغرينا بالمزيد مع امتداد الكورنيش حتى المنتزه.. نحفظ أحياءها لتميزها بمعالم تحيي تاريخها الانساني والحربي.. الأحياء أصدقاء أسماؤهم معروفة، باشاوات وأولياء وخواجات وقادة ثورتى 19، و52، وللحرية شارع، للمحطة ميدان وللمنشية!! 

نعود مؤخرا فلا تعرفنا ولا نعرفها.. خلاط الرأسمالية التهم براءة طلتها، وأخلي بيوتها العريقة المطلة على الكورنيش، انتظارا لكمال انهيارها الذاتي، توفيرا لأثمانها!! فماذا يفعل ماهر العاشق!! يغض البصر أخلاقا وإكراما، لأن الطوفان عال.. شرفة مسكنه في قلبها البعيد عن الطوفان، تطل على شرق بحرها، مقر حراس حضاراتها.. قلعة قايتباي، النادي اليوناني، تجمله لوحة مرسي قوارب الصيادين البديعة الساحرة.. يأتنس بمعمار حي الأزاريطة، الحي الملكي لعصر البطالمة.. قصور وفنادق ومبان سكنية أثرية متلاصقة تحتفل بمئويته كوزموبوليتان الفنون والحضارة والجمال، وآثار رقي الحياة في الذاكرة.. الأمواج تهدر بقصة حب  كليوباترا لأنطونيو، بوصول سفن حاملة كتب ورحيل سفن حربية!

أحكي لحفيدتي في غياب ماهر، تتلفت حولها فلا تكتمل أي صورة، ولا تشم  رائحة اليود!! 

أحكي عن اسكندرية أيامنا.. بحر صباحا وتمشية العصاري على الكورنيش.. ليال سينما مترو وأمير ، مطعم ايليت وبيتزا شى جابى، رومانسية سانتا لوتشيا.. اكسسوار البنات من سوق المنشية.. محطة الرمل، البن البرازيلى وميدان سعد زغلول.. كل مكان هو صفحة في تاريخها وتشكيلنا!! 

أفرح لأن الترام شاهد لا زال يتبختر، سنجته تصهلل تحية  لأتينيوس، وديليس، وتريانون بنفس الديكور الأصلي، أفواج السياح تحيي مذاقه فأنتعش!!  التمشية مستحيلة، لأن الأرصفة ضاقت وتآكلت، والتهمتها فرشات كل شيء رخيص!! بقايا سحر أزقة الحي اللاتينى -تؤأم الباريسي- يميزها خفوت إضاءة محلات الأنتكيات المقلدة.

نتجه إلى براح المنتزه، اختفي البراح!! القبح عن يميننا ناطحات وأبراج متصارعة هدمت واجهات العمارات القديمة، فهرب سكانها.. وعن يسارنا تجريف شطآن واحتلال كافيهات بمواقف سيارات تضخ عادم!! تحجبت المرأة والمباني في الاسكندرية، وتنقبت شطآنها !! مشهد القبح مرعب، قبح بتراخيص محافظ سابق نزع الحضارة وأسس الرأسمالية.. منح كبار المقاولين تراخيص استثمار مفتوحة الارتفاع، ليترك بصمته الإصلاحية.. فأصبحت اسكندرية اخطبوطا لا يعرف يده من قدمه، وفقدت خصوصيتها!!

نصل إلى المنتزه.. مبنى الواجهة شامخ، لكن يخفي أوجاعا.. البيزنس التهم الممشى الأخضرالعريق، زارعا مواقف معدنية للسيارات بتسعيرة!! وسيارات جولف للتجوال في المسموح من مساحة الـ370 فدان، الربع ساعة بتذكرة!! القصور الثلاث قائمة..أحدها يضاف له فندق مجهول الطراز لكونه تحت الانشاء، ومثله بحيرات تنوء بكافيهات!! سور قصر الملك فاروق خلع التاج الملكي، وثبت نسر الجمهورية!! 

سرطان الرأسمالية ضرب ماريا عروس البحر الثرية، تاج المتوسط، ومصيف كل طبقات المصريين قبل انفجار سكاني متوقع.. علاجه تخطيط امتداد عمراني أفقى.. خانت العروس لأن محافظيها باعوها، وأخشى على بقايا مجوهراتها من المزاد..ألا من محافظ قادر على خلعها واستعادة هويتها!!  
---------------------------------
بقلم: منى ثابت

مقالات اخرى للكاتب

مدينتي الفاضلة | مين قطع النور عن مين؟!





اعلان